﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ (البقرة:276)
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة البقرة, وهي سورة مدنية وآياتها مئتان وستة وثمانون(276) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي تلك المعجزة التي أجراها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي يدي عبده ونبيه موسي ـ علي نبينا وعليه من الله السلام ـ حين تعرض شخص من قومه للقتل ولم يعرف قاتله, فأوحي الله ـ تعالي ـ إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة, وأن يضربوا جسد الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله, ويخبر عن قاتله ثم يموت, وذلك إحقاقا للحق, ودليلا ماديا علي أن الله ـ تعالي ـ قادر علي أن يحيي الموتي, وكانت قضية البعث بعد الموت هي حجة الكافرين والمتشككين عبر التاريخ.
ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول عدد من التشريعات الإسلامية في العبادات, والأخلاق, والمعاملات, وإن لم تغفل الإشارة إلي عدد من ركائز العقيدة, وإلي عدد من صفات كل من المؤمنين, والمنافقين, والكافرين, كما أشارت إلي قصة الخلق الأول ممثلا في أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ, وإلي عدد من أنبياء الله ورسله, ودعت الناس كافة إلي عبادة الله ـ تعالي ـ وحده وإلي الإيمان به وبملائكته, وكتبه ورسله, وبختام ذلك كله: القرآن الكريم, وسيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين; كما تناولت سورة البقرة أهل الكتاب بتفصيل وصل إلي أكثر من ثلث مجموع آياتها, وختمت بإقرار حقيقة الإيمان, وبدعاء إلي الله ـ تعالي ـ يهز القلب والعقل والروح معا, ويرجع النفس إلي بارئها.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة, وما جاء فيها من تشريع, وعقائد, وعبادات, وأخلاق, وقصص, وإشارات كونية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التشريعي في تحريم الربا بمختلف صوره وأشكاله ومقاديره انطلاقا من قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ (البقرة:276)
من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة
أولا: تأكيد قيمة المال في الإسلام:
تشير هذه الآية الكريمة إلي أن للمال في الإسلام قيمة كبيرة لأنه الوسيلة الرئيسية في تقويم جهود الناس وأقدار ممتلكاتهم, ومن هنا كان لابد من أن تبقي قيمته ثابتة, وألا يتخذ سلعة بذاته تباع بمثلها ويكون من وراء ذلك مكسب مادي, كي يبقي من العوامل الأساسية في استقرار الأوضاع الاجتماعية للأمم, وفي تقدمها العلمي والتقني, ونجاحها المادي والمعنوي. والإسلام لا يري المال ـ في ذاته ـ غاية مقصودة, ولا هدفا منشودا, يطلب بكل وسيلة ممكنة, سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة, وسواء أضرت بالمصلحة العامة أم لم تضر, بل وضع لكسبه من الضوابط ما صان قيمته. وبالمثل فإن الإسلام لا يقبل إنفاق المال بلا ضوابط طلبا لتحقيق الشهوات, والمتع المادية المجردة من كل غاية.
وعلي ذلك فإن جمع المال في الإسلام يجب أن يكون منزها عن كل كسب حرام من مثل الربا, الرشوة, الاحتكار, الاكتناز, النجش( التلاعب بالأسعار), الغش, أكل أموال الناس بالباطل, أكل مال اليتيم, أكل المال العام عن طريق التحايل, التزوير, استغلال النفوذ, الخداع, السمسرة, تطفيف المكيال والميزان, وكثرة الحلف بالباطل, وغير ذلك من الأساليب الضارة بالمجتمع أفرادا وجماعات وأمما, وبقيمه وأخلاقياته. ومن ذلك الغيبة والنميمة, والظلم بمختلف أشكاله وصوره. ولذلك أمر رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بتحري الحلال في كل شيء فقال: الحلال بين والحرام بين.... كذلك يري الإسلام أن المال الذي يكتسب بالحلال هو أشرف من أن ينفق علي المتع المادية فقط, وعلي الانصراف الكلي إلي الحياة الدنيا وزينتها, علما بأن الاستمتاع المادي بالطيبات من الرزق في حدود المباح شرعا ليس محرما لأن فيه تقوية للإنسان علي حسن القيام برسالته في هذه الحياة علي الوجه الذي يرتضيه الله ـ تعالي ـ, وفيه العصمة من الوقوع في المحرمات من السلوك, وحينئذ يندفع الإنسان بإيمان راسخ, وعزيمة ماضية إلي تحقيق رسالته في هذه الحياة: عبد الله ـ تعالي ـ يعبده بما أمر, ومستخلفا ناجحا في الأرض يقوم علي عمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها, ولذلك قال المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ: نعم المال الصالح للعبد الصالح.
وانطلاقا من ذلك كله; فإن الإسلام يعتبر المال مال الله ـ سبحانه وتعالي ـ, ويعتبر أصحاب المال مستخلفين فيه, ومن ثم فإن الإسلام يأمر بطلب المال بالطرق المشروعة, ويحرم أكله بالباطل, ويحض علي الإنفاق حسب الطاقة علي ذوي القربي, واليتامي, والمساكين, والعاملين عليها, والمؤلفة قلوبهم, وفي الرقاب, والغارمين, وفي سبيل الله, وابن السبيل, والسائلين, وأصحاب العاهات, والعجزة, واللقطاء, والأرامل, والأحداث الضائعين, والمنكوبين والمكروبين من الخلق أجمعين.
كذلك حرم الإسلام كنز الأموال وحذر من البخل, وأمر بتوزيع الإرث, وأقر المساءلة عن أصل المال كما أقر العدالة في توزيع الثروات, وأمن المرافق العامة, وحرم تحديد الأسعار في الأحوال العادية, وعدد طرق الإنفاق في سبيل الله وحض عليها ومنها الزكوات( زكاة المال, زكاة الزروع, زكاة الفطر), ومنها الصدقات, والنذور, والكفارات, والأضاحي, ومنها الوقف( الذري والخيري), والوصية, العارية, والهدية, والهبة, وإغاثة المحتاجين والجوعي خاصة في أحوال الأزمات, وتأسيس الجمعيات الخيرية القائمة علي مختلف الأنشطة النافعة. كذلك حبب رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في إنظار المعسر, وفي التجاوز عن غير القادر, فقال: من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر, أو يضع عنه.
ثانيا: التأكيد علي حرمة الربا:
يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في تحريم الربا:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ ( البقرة:175 ـ281).
ويقول ـ عز من قائل ـ:
﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ... ﴾ ( الروم:39).
وفي الحديث القدسي يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر, ورجل باع حرا فأكل ثمنه, ورجل استأجر أجيرا فاستوفي منه ولم يعطه أجره.
وفي ذلك يقول المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ:
* إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة.
* ويقول: مطل الغني( أي تسويفه في سداد ما عليه) ظلم.
* ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين.
* ويقول: الراشي والمرتشي في النار.
* ويقول: من نبت لحمه من سحت( وهو كل ما خبث من المكاسب وحرم) فالنار أولي به.
* ويقول: إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلي قل.
* ويقول: لعن الله في الربا آكله وموكله وكاتبه وشاهديه.
* ويقول: وإن أربي الربا استطالة المرء في عرض أخيه.
والربا هو الزيادة علي أصل المال من غير تبايع, أو هو فضل مال لا يقابله عوض من جهد أو مخاطرة في معاوضة مال بمال, أو هو الزيادة المشروطة علي الدين مقابل الأجل.
وللربا صور عديدة منها ربا الأجل( ربا النسيئة), وربا الفضل( ربا الزيادة أوربا التجارة), والأول ينطبق علي فوائد القروض( ولا فرق في ذلك بين عائد ثابت, وعائد محدد بنسبة مئوية من أصل القرض, ولا بين مبلغ مقطوع يدفع مقدما أو عند حلول الأجل, أو في صورة هدية مشروطة, أو منفعة مفروضة, أو خدمة, ولا يتم القرض إلا بأدائها), ولذلك قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: من شفع لأخيه شفاعة, فأهدي له هدية, فقبلها فقد أتي بابا عظيما من الربا.
أما ربا الفضل فيتم في شراء وبيع السلع يدا بيد في غير تكافؤ كامل وعادل, لأن أي زيادة في ذلك هي من ربا الفضل ويعرف بكل زيادة لم يقابلها عوض, وتحريم هذا الربا يقصد به تحقيق العدالة الكاملة في جميع المعاملات, وإزالة كافة أشكال الاستغلال فيها.
من هنا قرر الإسلام العظيم تحريم الربا بكل أشكاله وألوانه وصوره, ومقاديره, ومبرراته إلا في حالة واحدة, هي الوشوك علي الهلاك جوعا, الذي فسره رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بقوله: أن يجيء الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله.
وتحريم الربا فيه حماية للقطاع الغالب من الأمة أصحاب الدخول المحدودة من العمال, والموظفين, والأيتام, والأرامل, والمحالين إلي التقاعد, لأن الربا هو السبب في استعار الأسعار الذي يكتوي بناره أصحاب الدخول المحدودة الذين يمثلون القطاع الأكبر في المجتمعات الإنسانية.
ثالثا: انتشار الربا في العالم مخالفة لأوامر الله ـ تعالي ـ:
انطلاقا من إيماننا بوحدانية الله ـ تعالي ـ فإننا نؤمن بوحدة رسالة السماء, وبالأخوة بين الأنبياء, وبين الناس جميعا, ومما يؤكد علي هذه الحقيقة أن علم مقارنة الأديان يثبت أن الربا كان محرما في جميع الشرائع السماوية كما هو محرم في الإسلام, وأن إشاعته بين الناس كان من وساوس شياطين الإنس والجن, الذين أشاعوه في الحضارتين اليونانية والرومانية القديمتين، وحمل وزر إشاعته اليهود، على الرغم من نهيهم عنه نهيا قاطعاً واعتداه العرب في جاهليتهم تأثرا باليهود، ثم جاء الإسلام العظيم بتحريمه تحريما مغلظا باعتباره من السبع الموبقات المهلكات، فحرمه المسلمون، وبقى الربا محرما إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي، وان مارسه اليهود خلسة، ثم بدأت إباحته في الغرب في حدود سنة (1593م )، وحمل اليهود لواء الدعوة إليه حتى تبنته الثورة الفرنسية وجعلته مبدءا رسميا للدولة في سنة 1789م ، ومن ثم انتشر الربا انتشار النار في الهشيم في كافة دول العالم غير الإسلامي، ثم فرضته القوى الغاشمة على جميع الدول المسلمة بالقوة، وعلى الرغم من ذلك بقيت الشعوب المسلمة- في غالبيتها الساحقة- رافضة فكرة البنوك والمؤسسات الربوية، إلا أن هذا الرفض أخذ في التضاؤل تحت ضغط حملات الذين تغربوا من أبناء الأمة، والذين مكنهم الاستعمار من مراكز اتخاذ القرار في بلاد المسلمين، حتى شاع فيها الربا وعمت البلوى، واعتبرت القوى المعادية ذلك انتصارا لها. وأصبحت الدول المسلمة -حكومات، وبنوكا، وشركات، ومؤسسات وأفرادا -تتعامل فيما بينها بالربا فعم البلاء، واستعر الغلاء، ونزعت البركة من كل شيء، وحل القحط، وكثرت الكوارث والنكبات، وتحللت الأخلاق، وتردت السلوكيات، وساءت المعاملات، وضاعت كل القيم النبيلة، وحل محلها النصب والاحتيال، والتزوير والغش، ومختلف صور الكسب الحرام عند غالبية الناس إلا من رحم ربك، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، " ليأتِينّ على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره أو من غباره ".
ومن كوارث الربا التي حلت بنا في مصر فوائد ديون الدولة إلى الحد الذي أعجزها عن دفع تلك الفوائد المتراكمة عليها بالربا، التي تضاعفت أضعافا كثيرة، وكان ذلك أحد مبررات الاحتلال البريطاني الذي دمر كل شيء في مصرنا الحبيبة، وفى غيرها من ديار المسلمين، فأفسد البلاد، وأذل العباد مسبب في غالبية الكوارث والفتن التي لا نزال نعانى منها إلى اليوم.
وصدق رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ حين حذرنا من هذا الواقع الحزين بقوله الشريف: لئن تركتم الجهاد, وأخذتم بأذناب البقر, وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتي تتوبوا إلي الله وترجعوا إلي ما كنتم عليه.
ولكن من رحمة الله ـ تعالي ـ أن أبقي طائفة من المؤمنين الرافضين للتعامل بالربا, الذين ظلوا يدافعون عن النظم الاقتصادية الإسلامية حتي شاء الله أن تقوم أعداد من المؤسسات المالية الإسلامية, فاقت أعدادها المئات في مختلف أنحاء العالم, وأثبتت نجاحها, علي الرغم من الحرب الضارية التي شنت عليها من المتغربين من أبناء المسلمين قبل المعادين من غير المسلمين.
كل ذلك يشرح ومضة للإعجاز التشريعي في تحريم الربا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق