﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾( الحجر:85 )
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة الحجر, وهي سورة مكية, وآياتها (85) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي أصحاب الحجر, وهم قبيلة ثمود, قوم نبي الله صالح ـ علي نبينا وعليه من الله السلام ـ ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
وتبدأ سورة الحجر بالحروف المقطعة الثلاثة( الر) التي تكررت في مطلع خمس من سور القرآن الكريم هي: يونس, هود, يوسف, إبراهيم, والحجر. وقد سبق لنا مناقشة هذه الفواتح الهجائية, ولا أري داعيا لتكرار ذلك هنا.وبعد هذا الاستهلال تمتدح الآيات كلا من القرآن الكريم والإسلام العظيم, مهددة كلا من الكفار والمشركين وأعداء الدين بعقاب رب العالمين, وفي ذلك تقول:
﴿الـر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ (الحجر:1 ـ5).
ثم تنتقل الآيات إلي استنكار تطاول أهل الكفر والشرك والضلال علي شخص خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم, مؤكدة أن الله ـ تعالي ـ هو الذي أنزل القرآن الكريم, وتعهد بحفظه تعهدا مطلقا فتقول:
﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ *لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُّنظَرِينَ *إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾( الحجر:6 ـ9).وتؤكد السورة الكريمة أن هذا الموقف الجاحد تكرر من الكفار والمشركين مع جميع أنبياء الله ورسله, فاستحق هؤلاء الجاحدون أشد العقاب من رب العالمين في الدنيا قبل الآخرة, وفي ذلك تقول الآيات مخاطبة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ *وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ *كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ *لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾( الحجر:10 ـ13).
وفي الآيات(14 ـ27) استعرضت سورة الحجر عددا من بديع صنع الله في الكون, مما يشهد له ـ تعالي ـ بالألوهية, والربوبية, والخالقية, والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه. وجاء في كل آية من هذه الآيات عدد من ومضات الإعجاز العلمي في كتاب الله يتمثل في السبق بالإشارة إلي عدد من حقائق الوجود التي لم تدرك إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, وإن كانت أعين الكفار والمشركين لا تبصر, وعقولهم لا تعي ولا تفهم, وأسماعهم عن الحق قد صمت!!ثم تنتقل الآيات إلي حقيقة خلق الإنسان, وإلي موقف الشيطان منه فتقول:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ *قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ *قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ *قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ *وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ *قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ *إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ *قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ *قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ *وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ *لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ ( الحجر:28 ـ44).
وفي المقابل تنتقل الآيات إلي وصف الجنة التي يدخلها عباد الله المتقون, وإلي وصف جانب من نعيمهم فيها, آمرة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يبشر برحمة الله ومغفرته, وأن ينذر من أليم عذابه فتقول:
﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ *وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ *لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ *نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ ﴾( الحجر:45 ـ50).وفي الآيات(51 ـ84) استعراض لقصص عدد من أنبياء الله ورسله, ولتفاعل أقوامهم معهم, ولعقاب الله الذي وقع بالكفار والمشركين, والعصاة المتجبرين منهم, حتي تعتبر الأمم من بعدهم, فلا يقعوا فيما وقع هؤلاء العصاة فيه, ومن أنبياء الله الذين ورد ذكرهم في سورة الحجر ساداتنا إبراهيم, لوط, شعيب, وصالح( علي نبينا وعليهم وعلي أنبياء الله جميعا من الله السلام).ثم تتجه الآيات بالخطاب مرة أخري إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ فتقول له:
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ *إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ *وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ *لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِـينَ *وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ المُبِـينُ *كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِـينَ *الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ *فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ( الحجر:85 ـ93).
و(المقتسمون) هم كفار أهل الكتاب ومشركوهم الذين تحالفوا علي مخالفة أنبياء الله وتكذيبهم وإيذائهم, وتقاسموا علي ذلك, والذين اقتسموا الكتب التي أنزلت إليهم فآمنوا ببعضها وكفروا بالبعض الآخر, وهم( الذين جعلوا القرآن عضين) أي أجزاء متفرقة, يستشهدون بما يروق لهم من آياته, خداعا ومواربة, ولعبا بالألفاظ..., ويغفلون منه ما يدين عقائدهم الباطلة!! وجاءت الإشارة إلي هؤلاء الكفار والمشركين مواساة لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في موقف كفار ومشركي العرب من القرآن الكريم الذي تطاولوا عليه كفرا وشركا وفجرا وافتراء بوصفه بالسحر تارة, وبالشعر تارة أخري, وبالشعوذة والأساطير تارة ثالثة, مع عجزهم الكامل عن الإتيان بشيء من مثله, وهم في قمة البلاغة والفصاحة وقوة البيان... وتبقي هذه الآيات مواساة لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ كذلك في حال كل متطاول علي شخصه الكريم أو علي القرآن الكريم من كفار ومشركي كل عصر, وكل جيل, إلي قيام الساعة, ولذلك ختمت سورة الحجر بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ له:
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ﴾ ( الحجر:94 ـ99).
من ركائز العقيدة في سورة الحجر
(1) الإيمان بالله ـ تعالي ـ الخلاق العليم, والغفور الرحيم, صاحب العذاب الأليم, والإيمان بملائكته, وكتبه, ورسله, وبأنه ـ تعالي ـ هو الذي أنزل القرآن الكريم علي خاتم أنبيائه ورسله, وتعهد بحفظه تعهدا مطلقا.
(2) اليقين بأن الدين الذي يرتضيه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ من عباده هو الإسلام, ولا يرتضي منهم دينا سواه.
(3) التصديق بحقيقة الآخرة, وبحتميتها, وضرورتها, وبكل أحداثها: من البعث إلي الحشر, والحساب, والجزاء, والجنة ونعيمها, والنار وجحيمها.
(4) التسليم بكل ما جاء في القرآن الكريم من قصص الأنبياء والمرسلين وتفاعل أممهم معهم, وعقاب الذين استهزأوا منهم بأنبياء الله ورسله, وكيف كان لكل أمة منهم أجل استوفته بالكامل, وكيف كانت نهايتها.
(5) الإيمان بحقيقة الروح التي هي من أمر الله.
(6) اليقين بأن الشيطان للإنسان عدو مبين.
(7) التصديق بفضل فاتحة الكتاب التي امتدحتها السورة كما امتدحتها أحاديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ.
(8) التسليم بأن الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ هو النذير المبين للحق أجمعين.
(9) الإيمان بمسئولية الإنسان عن أعماله في الحياة الدنيا.
(10) اليقين بأن الله ـ تعالي ـ قد تكفل بالدفاع عن خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ حيا وميتا, فما ضاق صدره بما قال السفهاء من الناس في زمانه ولن يسيؤه ذلك بعد وفاته.
(11) التصديق بأن الموت حق علي كل العباد.
من الإشارات العلمية في سورة الحجر
(1) التأكيد علي أن السماء بناء محكم, وعلي وصف الحركة فيها بالعروج.
(2) الإشارة إلي رقة طبقة النهار وإلي ظلمة الكون.
(3) وصف بروج السماء بأنها زينة لها, ووصف الشهب بأنها رجوم للشياطين.
(4) التأكيد علي كروية الأرض بالوصف( مددناها), وذلك لأن المد بلا نهاية هو قمة التكوير.
(5) الإشارة إلي إلقاء الجبال في الأرض, ووصفها بالرواسي, والتأكيد علي إنبات كل شيء بميزان دقيق في هذه الأرض.
(6) وصف قدرة الله ـ تعالي ـ البالغة في توفير أرزاق الإنسان علي الأرض, وأرزاق من لا يستطيع الإنسان إعاشته من أحياء الأرض.
(7) التأكيد علي أن خزائن كل شيء عند الله ـ تعالي ـ وما ينزل الأرزاق منها إلا بقدر معلوم, وإلا فسدت الحياة علي الأرض. ومن هذه الأرزاق المطر, ومختلف أنواع العناصر والمركبات, والقرارات الإلهية بإنزال الرزق.
(8) الإشارة إلي دور الرياح في تلقيح السحب بنوي التكثف, ومن ثم إنزال الماء لسقيا كل من الإنسان والحيوان والنبات, وخزن الفائض في صخور الأرض عالية المسامية وعالية النفاذية, وبين طبقات مصمتة في مخازن للماء محكمة, أحكمها صنعا الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ من أجل استقامة الحياة علي الأرض.
(9) التأكيد علي حتمية فناء الكون بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ:﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوَارِثُونَ ﴾ ( الحجر:23)
وقوله ـ تعالي ـ:...﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ ( الحجر:85).
(10) وصف خلق الإنسان من صلصال من حمإ مسنون.
(11) الإشارة إلي عدد من الأنبياء السابقين, وإلي المكذبين من أممهم وما أصابهم من عقاب الله, والدراسات الأثرية تؤكد ذلك وتدعمه.
(12) التأكيد علي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق, أي حسب قوانين ثابتة لا تتخلف, ولا تتعطل, ولا تتوقف إلي ما شاء الله ـ تعالي ـ, والإشارة بالبينية الفاصلة للسماوات عن الأرض إلي مركزية الأرض من الكون وهو ما لا يمكن للمعارف المكتسبة إثباته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق