﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ (العصر1-3)
سورة العصر مكية, وهي من قصار سور القرآن الكريم لاحتوائها علي ثلاث آيات فقط بعد البسملة, وعلي الرغم من قصرها فهي تحوي المعالم الأساسية لرسالة الإنسان في هذه الحياة كما حددها له الله ـ تعالي ـ فالإنسان عبد لله, خلقه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ لرسالة محددة ذات وجهين: أولهما عبادة الله ـ تعالي ـ بما أمر, وثانيهما حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة شرع الله فيها, ولايمكنه تحقيق ذلك بمفرده إذ هو محتاج إلي التواصي علي ذلك مع غيره من الناس: في بيته, وفي مجتمعه, وفي بلده, ومع أهل الأرض أجمعين, والتواصي بالصبر علي ذلك لأن دعوة الناس إلي الحق تحتاج كثيرا من المجاهدة والصبر وهذا كله يأتي انطلاقا من الإيمان بإله واحد, هو خالق كل شيء, وهو بذلك منزه عن الشريك, والشبيه, والمنازع, والصاحبة, والولد, وعن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لايليق بجلاله.
وانطلاقا من الإيمان بالإله الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد, ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, نصل إلي الإيمان بوحدة رسالة السماء, وبالأخوة بين الأنبياء, وبوحدة الجنس البشري كله, الذي يعود أصله إلي أب واحد, وأم واحدة, هما أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام.
وعلي امتداد وجود الإنسان علي الأرض كانت هذه هي حقيقة رسالته, إن فهمها, والتزم بتطبيقها حقق سعادته في الدنيا والآخرة, وإن فهم جزءا منها وأغفل الباقي, أو أغفلها كلها خسر الدنيا والآخرة, وإن حقق في حياته الدنيوية من النجاحات المادية ماحقق, وهذا هو الخسران المبين.
وسوف أتناول في هذا المقال شرح سورة العصر, وأؤجل ومضة الإعجاز العلمي فيها إلي المقال القادم إن شاء الله. وقبل شرحي لهذه السورة الكريمة أري ضرورة الاستئناس بأقوال عدد من المفسرين القدامى والمعاصرين.
من أقوال المفسرين في تفسير سورة العصر:-
* ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ ما مختصره: العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر, وقال زيد بن أسلم: هو العصر, والمشهور الأول, فأقسم تعالي بذلك علي أن الإنسان لفي خسر أي في خسارة وهلاك( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فاستثني من جنس الإنسان عن الخسران: الذين آمنوا بقلوبهم, وعملوا الصالحات بجوارحهم( وتواصوا بالحق) وهو أداء الطاعات, وترك المحرمات, ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ أي علي المصائب والأقدار, وآذي من يؤذي, ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر.
* وذكر صاحبا الجلالين ـ رحمهما الله ـ ما نصه:﴿وَالْعَصْرِ﴾ الدهر, أو: ما بعد الزوال إلي الغروب, أو: صلاة العصر﴿ إِنَّ الإِنسَانَ ﴾الجنس ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ في تجارته( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فليسوا في خسران﴿وَتَوَاصَوْا﴾ أوصي بعضهم بعضا( بالحق) الإيمان ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾علي الطاعة وعن المعصية.
وجاء بالهامش تعليق للشيخ محمد أحمد كنعان قال فيه: قوله:( في تجارته) لقد أبعد الجلال المحلي في تفسيره هذا, والأولي أن يقال: إن الإنسان خاسر وهالك إلا إذا آمن وعمل صالحا.. الخ أي: لا تنفعه الدنيا وما عليها إذا لم يكن مؤمنا صالحا.
* وجاء في الظلال ـ رحم الله كاتبه برحمته الواسعة جزاء ما قدم ـ كلام رائع أختصره في النقاط التالية: فما الإيمان؟؟.. إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود, ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر, وبالنواميس التي تحكم هذا الكون, وبالقوي والطاقات المزخورة فيه.. والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلي رحابة الكون الكبير. ومن حدود قوته الهزيلة إلي عظمة الطاقات الكونية المجهولة. ومن حدود عمره القصير إلي امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله.. ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة: التعبد لإله واحد, والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقي منها الإنسان تصوراته وقيمه, وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه, وكل مايربطه بالله أو بالوجود أو بالناس.. ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق..., والاستقامة علي المنهج الذي يريده الله.. والاعتقاد بكرامة الإنسان علي الله... والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم, عفو كريم, ودود حليم... وهناك التبعة المترتبة علي حرية الإرادة وشمول الرقابة
... والارتفاع عن التكالب علي أعراض الحياة الدنيا... إن الإيمان هو أصل الحياة الكبيرة, الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير.. ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلي هذا الأصل.. إن الإيمان دليل علي صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني.. والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان... أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلاله صورة الأمة الإسلامية... والتواصي بالحق ضرورة.. والتواصي بالصبر كذلك ضرورة... والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة...
وبعد استشهاد طويل من كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للأستاذ أبوالحسن الندوي, ختم صاحب الظلال كلامه عن سورة العصر بقوله: وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق.. إنه الخُسر..﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾.. طريق واحد لا يتعدد. طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة الإسلامية التي تتواصي بالحق وتتواصي بالصبر, وتقوم متضامنة علي حراسة الحق مزودة بزاد الصبر.. إنه طريق واحد.. ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما علي الآخر سورة( العصر) ثم يسلم أحدهما علي الآخر.. لقد كانا يتعاهدان علي هذا الدستور الإلهي, يتعاهدان علي الإيمان والصلاح, ويتعاهدان علي التواصي بالحق والتواصي بالصبر. ويتعاهدان علي أنهما حارسان لهذا الدستور, ويتعاهدان علي أنهما من هذه الأمة القائمة علي هذا الدستور..
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ـ رحم الله كاتبه ـ ما نصه:( والعصر) أقسم الله بصلاة العصر لفضلها, لأنها الصلاة الوسطي عند الجمهور. أو بوقتها, لفضيلة صلاته, كما أقسم بالضحي, أو بعصر النبوة لأفضليته بالنسبة لما سبقه من العصور أو بالزمان كله, لما يقع فيه من الأقدار الدالة علي عظيم القدرة الباهرة. وجواب القسم:( إن الإنسان لفي خسر) أي إن جنس الإنسان لا ينفك عن خسران ونقصان في مساعيه وأعماله وعمره. أي إن الكافر لفي خسر. أي هلكة أو شر أو نقص﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ استثناء متصل إذا أريد بالإنسان الجنس.. ومنقطع إذا أريد به خصوص الكافر. والأعمال الصالحات تشمل جميع ما يعمله الإنسان مما فيه خير ونفع وبر.
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ أوصي بعضهم بعضا بالتمسك بالحق, ومنه الثبات علي الإيمان بالله وكتبه ورسله, والعمل بشريعته في كل عقد وعمل, وذلك هو الأمر الثابت الذي لا سبيل إلي إنكاره, ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره.( وتواصوا بالصبر) أي أوصي بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي, التي تميل إليها النفوس بالطبيعة البشرية. والصبر علي الطاعات التي يشق علي النفوس أداؤها, ومنها الجهاد
في سبيله ـ وعلي البلايا والمصائب التي تصيب الناس في الدنيا, ويصعب علي النفوس احتمالها, والله أعلم.
* وذكر أصحاب المنتخب ـ جزآهم الله خيرا ـ ما نصه: في هذه السورة أقسم الله ـ سبحانه ـ بالزمان لانطوائه علي العجائب, والعبر الدالة علي قدرة الله وحكمته, علي أن الإنسان لا ينفك عن نقصان في أعماله وأحواله إلا المؤمنين الذين عملوا الصالحات وأوصي بعضهم بعضا بالتمسك بالحق, وهو الخير كله, وتواصوا بالصبر علي ما أمروا به وما نهوا عنه.
* وجاء في صفوة التفاسير ـ جزي الله كاتبها خيرا ما نصه: سورة العصر مكية, وقد جاءت في غاية الإيجاز والبيان, لتوضيح سبب سعادة الإنسان أو شقاوته, ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره. أقسم ـ تعالي ـ بالعصر وهو الزمان الذي ينتهي فيه عمر الإنسان, وما فيه من أصناف العجائب, والعبر الدالة علي قدرة الله وحكمته, علي أن جنس الإنسان في خسارة ونقصان, إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة وهي( الإيمان) و( العمل الصالح) و( التواصي بالحق) و( الاعتصام بالصبر) وهي أسس الفضيلة, وأساس الدين, ولهذا قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: لو لم ينزل الله سوي هذه السورة لكفت الناس.
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾أي أقسم بالدهر والزمان لما فيه من أصناف الغرائب والعجائب, والعبر والعظات, علي أن الإنسان في خسران, لأنه يفضل العاجلة علي الآجلة, وتغلب عليه الأهواء والشهوات. قال ابن عباس: العصر هو الدهر أقسم تعالي به لاشتماله علي أصناف العجائب, وقال قتادة: العصر هو آخر ساعات النهار, أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة الباهرة, والعظة البالغة.. وإنما أقسم الله تعالي بالزمان لأنه رأس عمر الإنسان, فكل لحظة تمضي فإنها من عمرك ونقص من أجلك.. قال القرطبي: أقسم الله عز وجل بالعصر ـ وهو الدهر ـ لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها, وما بها من الدلالة علي الصانع, وقيل: هو قسم بصلاة العصر لأنها أفضل الصلوات﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي جمعوا بين الإيمان وصالح الأعمال, فهؤلاء هم الفائزون لأنهم باعوا الخسيس بالنفيس, واستبدلوا الباقيات الصالحات عوضا عن الشهوات العاجلات( وتواصوا بالحق) أي أوصي بعضهم بعضا بالحق, وهو الخير كله, من الإيمان, والتصديق, وعبادة الرحمن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾..علي الشدائد والمصائب, وعلي فعل الطاعات,
وترك المحرمات.. حكم تعالي بالخسارة علي جميع الناس إلا من أتي بهذه الأشياء الأربعة وهي: الإيمان, والعمل الصالح, والتواصي بالحق, والتواصي بالصبر, فإن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا كمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح, وكمل غيره بالنصح والإرشاد, فيكون قد جمع بين حق الله, وحق العباد, وهذا هو السر في تخصيص هذه الأمور الأربعة.
من ركائز العقيدة في سورة العصر:-
1ـ الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وتنزيه الله ـ تعالي ـ عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
2ـ الالتزام بالصالحات من الأعمال.
3ـ التواصي بالحق.
4ـ التواصي بالصبر.
5ـ اليقين بأن الذين يلتزمون بهذه الضوابط الإيمانية ـ علي قلتهم ـ هم الناجون في الدنيا والآخرة, وأن الذين لا يلتزمون ـ وهم الأكثرية الغالبة ـ سيخسرون الدنيا والآخرة, وذلك هو الخسران المبين.
من الإشارات الكونية في سورة العصر:-
1ـ القسم بالعصر وهو قسم يشمل الزمن كله, كما يشمل وقت العصر أي الفترة الزمنية ما بعد الزوال إلي الغروب, أو صلاة العصر لفضلها.
2ـ الإشارة إلي ضلال أغلب الناس, واستثناء القلة الصالحة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات والتاريخ والواقع يؤكدان ذلك.
3ـ التأكيد أن الإنسان مخلوق اجتماعي بالفطرة, وهو ما أكدته جميع الدراسات المكتسبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق