(...... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.........*)(الحشر:7)
هذا النص القرآني الكريم جاء في أواخر الثلث الأول من سورة "الحشر", وهي سورة مدنية, (7) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم (الحشر) بسبب حشر يهود "بني النضير" العرب من كفار أهل الكتاب إلى بلاد الشام بعد أن أخرجهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من جواره, وإن لجأت طائفة منهم إلى منطقة خيبر العربية إلى الشمال من مدينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول " غزوة بني النضير " التي وقعت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة (الموافق شهر أغسطس سنة 635 م) وما تبعها من طرد لهؤلاء الكفرة من أهل الكتاب من اليهود العرب الخائنين من شبه الجزيرة العربية, وفضح كل من مخططاتهم المريبة ومسالك المنافقين الذين تعاونوا معهم من كفار ومشركي العرب. وفي نفس الوقت تمتدح الآيات في سورة "الحشر" ما أظهره كل من المهاجرين والأنصار من مظاهر الأخوة الإسلامية الحقيقية التي ظلت تضرب بها الأمثال إلى اليوم . كذلك بينت الآيات في هذه السورة المباركة أحكام الفيئ , ووصية الله لعباده المؤمنين بالتزام تقواه- سبحانه وتعالى- والخضوع لأوامره , ومداومة التفكر في بديع تدبيره الحكيم في كل أمر من أمور خلقه . وتؤكد الآيات في سورة "الحشر" على ضرورة استعداد العبد المؤمن للانتقال من الدنيا إلى الآخرة , وضرورة المداومة بالثناء على الله- تعالى- وتسبيحه وحمده , وتنزيهه عن جميع صفات خلقه , وعن كل وصف لا يليق بجلاله , ولذلك بينت الآيات عددا من أسماء الله الحسنى , وصفاته العليا .
هذا , وقد سبق لنا استعراض سورة "الحشر" وما جاء فيها من ركائز العقيدة , ووصف لغزوة "بني النضير" , والدروس والعبر المستفادة من استعراض السورة الكريمة لتلك الغزوة . ونركز هنا على الحكمة التشريعية من الأمر الإلهي باتباع سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاصة في زمن الفتن الذي نعيشه , والذي تطاول فيه الأقزام من الكفار والمشركين ومن المتنطعين والمترددين على مقام خير الخلق أجمعين وكثر تهجمهم على سنته المطهرة .
من الإعجاز التشريعي في الأمر
باتباع سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
من أسس الإسلام العظيم: العقيدة الصحيحة , والعبادة السليمة , والحض على الالتزام بمكارم الأخلاق , وبحسن السلوك وانضباط المعاملات . وهذا الدين ( الإسلام) علمه ربنا- تبارك وتعالى- لأبينا آدم- عليه السلام- لحظة خلقه , وعلم آدم بنيه , وعاشت البشرية عشرة قرون كاملة بين أبينا آدم ونوح-عليهما السلام- على التوحيد الخالص لله الخالق- سبحانه وتعالى- وذلك انطلاقا من قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "كان بين آدم ونوح عشرة قرون, كلهم على شريعة الحق" ( أخرجه الحاكم في المستدرك ).
ويروي ابن عباس " رضي الله عنهما ": " أن رجالا صالحين من قوم نوح هلكوا , فوسوس الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم , ففعلوا ولم تعبد , حتى إذا هلك أولئك, وتنسخ العلم عبدت " ( أخرجه البخاري) . وتفشت الوثنية في قوم نوح فبعثه الله- تعالى- أليهم ليردهم إلى توحيد الله من جديد فلم يستجب إلى دعوته إلا أقل القليل . ولما يئس نوح من هدايتهم دعا الله- تعالى- عليهم فأغرقهم بالطوفان . وتكرر المشهد مع كل الأمم التي جاءت بعد قوم نوح من مثل أقوام عاد, وثمود , وفرعون , وقوم إبراهيم , وقوم لوط , وأصحاب الأيكة , وأصحاب الرس وقوم تبع وغيرهم إلى اليوم والبشرية تتناوبها فترات من الإيمان ثم الكفر , ومن التوحيد ثم الشرك , ومن الاستقامة على منهج الله- تعالى- ثم الخروج عليه, لأن الشيطان كان دوما للإنسان بالمرصاد, ولذلك أرسل الله- تعالى- عددا كبيرا من الأنبياء والمرسلين
لهداية البشرية, وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالى-: (... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ...*) (فاطر:24).
ويروي الإمام أحمد- رحمه الله- عن أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه- أنه قال: " أتيت رسول الله- صلى اله عليه وسلم- قائلا يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال- صلى الله عليه وسلم- "آدم" , قلت : يا رسول الله ! ونبي كان؟ قال: "نعم, نبي مكلم" قال: قلت: يا رسول الله! كم المرسلون ؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا"
(مسند الإمام أحمد) .
وفي رواية أبي أمامة- رضي الله عنه- فال أبو ذر:... قلت يا رسول الله! كم وفى عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا, الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا"
(مسند الإمام أحمد).
وهذه النصوص من القرآن والسنة تؤكد أن الهداية الربانية ظلت تتنزل على أهل الأرض لعدة آلاف من السنين , وبواسطة عشرات الآلاف من الأنبياء , وبضع المئات من الرسل , وكان لا بد من ختام لوحي السماء , وقد تجسد هذا الختام في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- ولذلك تعهد ربنا- تبارك وتعالى- بحفظهما , فحفظا على مدى يزيد على أربعة عشر قرنا في نفس لغة الوحي بهما- اللغة العربية- وتعهد ربنا- سبحانه وتعالى- بحفظ هذه الرسالة الخاتمة تعهدا مطلقا حتى تبقى حجة الله على خلقه إلى يوم الدين فقال- تعالى- (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *) (الحجر:9) . وقال-عزوجل - (...اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً...*) ( المائدة :3 ) .
وباستعراض تاريخ البشرية على الأرض نجد أن فترات سيادة النبوة والتزام الناس بدين الله كانت ومضات بارقة من أنوار الهداية الربانية وسط ظلمات طويلة من الجاهلية الدامسة, وكأن الإنسان لم يتعلم من هذه التجربة الطويلة التي استمرت لعدة عشرات الألوف من السنين . فبعد جهود مائة وأربعة وعشرين ألف نبي, وبعد تنزل ثلاثمائة وبضعة عشر رسالة سماوية فإن أهل الأرض جميعا- فيما عدا آحاد متناثرة من الأحناف – فقدوا اتصالهم بهداية خالقهم , حتى جاءت الرسالة الخاتمة على قلب ولسان الرسول الخاتم- صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة , التي عنيت بشرح ما جاء من ركائز الدين في كتاب الله , وبشرح كيفيات تطبيقها تطبيقا عمليا في واقع حياة الناس , وتفصيلها لهم, وتثبيتها في قلوبهم وعقولهم وممارساتهم, ومن هنا فإن الأمر الإلهي بالعناية بسنن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعلها من ضرورات الدين ولوازمه أصبحت وجها من أوجه الإعجاز التشريعي في كتاب الله لأنها توضح كثيرا من الأحكام التي أجملها كتاب الله- تعالى- وتفسر آياته, ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقوالا كثيرة تؤكد حجية السنة النبوية المطهرة منها ما يلي:
(1) "....فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين , عضوا عليها بالنواجذ..."
(أخرجه كل من أبي داود والترمذي, وابن ماجه وأحمد) .
(2) "....ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"
( أخرجه كل من أبي داود وأحمد) .
(3) " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنتي
(مالك والبيهقي) .
(4) "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال- صلى الله عليه وسلم- من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" .
(البخاري وأحمد) .
(5) " نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع, فرب مبلغ أوعى من سامع"
( الترمذي والدارمي ) .
(6) وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم- في عام سنة (أي جدب) سعر لنا يا رسول الله (أي: ثمن لنا لكل سلعة) , قال : " لا يسألني الله عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني بها , ولكن اسألوا الله من فضله "
(الطبراني, وأبو داود, والترمذي,وابن ماجة وأحمد) .
لذلك حذر رسول الله- صلى الله عليه وسلم تحذيرا شديدا فقال :
(7) " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد , ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"
(البخاري ومسلم) .
(8) وقال- صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو : " أكتب عني فوالذي نفسي بيده ما خرج من فمي إلا الحق"
(أبو داود وأحمد) .
وكان ذلك بعد نهيه- صلى الله عليه وسلم- عن كتابة غير القرآن لمن لا يؤمن عليه الغلط والخلط بين المصدرين فقد كان قال "لا تكتبوا عني , ومن كتب عني غير القرآن فليمحه "
(مسلم, أحمد والدارمي ) .
(9) وقد تنبأ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بخروج طائفة من منكري السنة فقال : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه , ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه, وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ...."
(أبو داود).
(10) وقال- صلى الله عليه وسلم- " لا ألقين أحدكم متكئا على أريكته , يأتيه أمر مما أمرت به , أو نهيت عنه فيقول: لا ادري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه
( أبو داود, والترمذي ) . وهذان الحديثان من المعجزات الإنبائية لرسول الله .
ولذلك أمر ربنا- تبارك وتعالى- بطاعة خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر , وباجتناب نواهيه في كل ما حرم , وفي ذلك يقول – وقوله الحق-: (.... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * ) (الحشر:7 ) .
ومن معاني هذا النص الكريم أن الله- تعالى- يأمر المسلمين كافة بطاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في كل أمر أمرهم به , وفي كل شئ نهاهم عنه لأنه هو الموصول بالوحي , والمعلم من قبل خالق السموات والأرض , فلا يأمر إلا بكل خير وصلاح ولا ينهى إلا عن كل شر وفساد . والآية وإن كانت قد نزلت في أموال الفئ , إلا أن الحكم فيها يبقى عاما في كل ما أمر به النبي- صلى الله عليه وسلم- أو نهى عنه , ويشمل ذلك كل واجب , ومندوب , ومستحب أو محرم , ولذلك حذر في ختام الآية من نزول عقاب الله الشديد بالخارجين عن أوامر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال (...إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ* ) . ولذلك أيضا قال- تعالى- مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *) (النحل:44) .
وقال- عز وجل - : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * ) (الجمعة : 2 ) .
والسنة النبوية المطهرة هي كل ما أثر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل , أو تقرير , أو صفة , أو سيرة , سواء كان ذلك قبل البعثة الشريفة أو بعدها . ولذلك حفظها ربنا- تبارك وتعالى- كما حفظ القرآن الكريم , مع تسليمنا بأن استحالة الدس على كتاب الله لكثرة حفاظه , قد ألجأت نفرا من حقدة الكفار والمشركين في محاولة الدس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألا أن جهود علماء المسلمين من أجل تحقيق السنة قد فاقت جهود التحقيق في أي مجال علمي آخر . وقد سلك علماء الحديث من أجل تحقيق ذلك طرقا في النقد والتمحيص لم يسبقوا بمثلها أبدا , حتى فاقت علوم الحديث خمسة وستين علما , فأبقوا سنة هذا الرسول الخاتم , وسيرته الشريفة مدونة تدوينا لم تنله أقوال وأفعال وصفات نبي من قبل , وجعلت من هذه السنة الشريفة أحد مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم , وقبل كل من الإجماع والقياس , والاستحسان , والمصالح المرسلة , ولولا ذلك ما فهمنا الكثير من أحكام الإسلام خاصة في مجال العبادات والمعاملات .
من ذلك تتضح ومضة الإعجاز التشريعي في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال , فالحمد لله على نعمة الإسلام , والحمد لله على نعمة القرآن , والحمد لله على بعثة خير الأنام , والحمد لله على العهد الألهي المطلق بحفظ كل ما أوحى إليه من قرآن وسنة , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق